Thursday, December 24, 2009

هوامش حول " ثلاثية غرناطة "




من اسرع الكتب التي قرأتها , و لاني لا انجذب الي الادب بشكل عام ولا اميل له ,فعندما انتهي من رواية بهذه السرعة فاعتقد انها فعلا رواية متميزة
هذه روايتي الاولي للكاتبة رضوي عاشور و اعتقد انها لن تكون الاخيرة , ربما ايضا ما جعلني اقبل عليها بهذه الطريقة تناولها لحقبة حزينة في تاريخنا - و لو تعلمون ان اغلب تاريخنا حزين مؤلم - و كأني اري تفاصيل الامس تتكرر اليوم و لكن بمفردات هذا العصر
و هذه الفترة تكاد تكون مهمشة ولا ندري منها الا الاسم فقط " ضياع الاندلس " و تلك الحقبة في الحقيقة امتدت في عمر البشرية حوالي ثمانية قرون فمن التقصير اغفال هذا الجزء المهم من تاريخنا ... و لكن للامانة ليس هذا هو الجزء الوحيد في التاريخ المسكوت عنه , فمن الواضح الان انه ان اردت ان تعرف الحقيقة لابد ان تبحث عن المعلومة بنفسك ولا تكتفي بما هو مقدم بشكل رسمي


تمتد هذه الرواية علي مدار عدة اجيال( ابو و ام جعفرو زوجة ابنهم الغائب و رعايتهم لاحفادهم سليمة و حسن , و رعايتهم الاستثنائية لنعيم و سعد ثم زواج كل من سليمة من سعد و حسن من مريمة و تتابع ميلاد الابناء لم ثم زواجهم و بعد دورة الحياة من ميلاد ووفاه نصل الي ان المنزل يخلوا الا من حفيد حسن و زوجتة مريمة علي ابن هشام ابن حسن و هو اخر فرع في هذه الاسرة )
و هذا النوع من السرد القصصي شيق للغاية فلا يجعل بطل واحد تدور حوله احداث الرواية , - اذكر قصة حديث الصباح و المساء لنجيب محفوظ كيف انها كانت جميلة جدا لانها تتبعت نفس اسلوب سرد الاجيالو ترصد التطور عبرهم - و هي هنا ترصد احوال البلد و المدينة و ما يؤول اليه مصير السكان عبر الزمن فهي تتبع التاريخ و لكن بشكل حي نابض , لا تكتفي فيه بذكر وقائع تاريخية صماء ( في عام 1590 اصدر الامبراطور الفلاني المرسوم الفلاني و سط ضجر من السكان ) لا بل تستشعر بانسانية اثر هذه القرارات و اثر الحروب في حياة النا س



تتبعهم الكاتبة في مدينة غرناطة granada وتصف لك معالم المدينة من حي البيازين و سقايين و الصنادقية و مناطق تتجمع فيها صناعات قديمة تذكرني بالقاهرة الفاطمية القديمة كما انها تبرع في وصف الحمام القديم ( و انا لم اري و لا حتي علي سيبل السياحة ) كيف يمكن ان يكون هناك حماماً عاماً و ان كنت اسمع ان هذا الامر لازال في بلاد المغرب العربي ,كما تذكر لك بالنسية و الحمراء و عين الدمع و طبعا تم تغيير اسماء هذه الاماكن باسماء قشتالية فاسبانية , لم يكن هذا التغيير من نصيب المدن وحدها بل برز هذا بوضوح في اختيارها لاسماء عربية في جيل اطفال حسن و سليمة ثم ذكر الاسمين العربي و الاعجمي بعد اجبار الاهالي علي اعتناق المسيحية و تعميدهم جبريا , ثم اصبحت تختار اسم مركب مثل ارناندو بن عامر و هي تشير الي ابناء العرب , ثم تحول تدريجيا الي خوسيه , و ايضا وجود ابطال مسلمين باسماء اعجمية مثل روبيرتو البطل


رصدت حياة ناس عاديين للغاية , ليسوا بابطال التحرير مثلا او من ينذرون حياتهم دفاعا عن القضية , بل هناك منهم من يزيد في الحرص ( مثل حسن ) و يريد ان يمشي بداخل الحائط ان امكن حتي يتجنب الشبهات و اثارة غضب المحتلين بحجة الدفاع عن بيته و اسرته ,و هناك من كان يحب الثقافة و الكتب مثل ابو جعفر و كان يريد ان يعلم الحفيدين اللقراءة و الكتابة و يجعل سليمة مثل نساء العلماء في قرطبة و لم يتحمل مشهد حرق تاريخ الاندلس في تجميعهم للكتب و حرفها فمات كمدا و هما و من مفارقات القدر ان حرقت ايضا حفيدته سليمة المحبة للعلم المعتده بنفسها مثلما حرقت كتبه .... كما ان سردها للاحداث لم يجئ بطئ او ممل انما كانت تنتقل بلقطات سريعة عبر السنوات لترصد ما تراه مهما من احداث فاصله وفي احيان اخري تمر علي شخصيات مرور الكرام ( مثل بنات حسن الخمس مثلا ) او ( متي و كيف تزوج هشام و متي انجب علي) و حتي و ان رصدت وقائع تاريخية فهي ترصدها و تضعها في سياقها العادي او شبه المهمل لرجل عادي , لا يكون ذكر تلك الاحداث الا مرة واحدة مثلما كان يستعرض تعيم لام جعفر ماذا حدث للعائلة المالكة فرديناند و ايزابيللا و مصير ابناءهم , ايضا ذكر ثورات المتمردين ضد الحكم القشتالي في الجبال و من يعاونوهم من المغرب او الاتراك في بعض الاحيان و علي استحياء ... ووجود اراء المنتفعين في كل زمن من ان تلك الثورات النضالية الحمقاء هي ما تعكر صفو رضا اهل قشتالة عن اثرياء العرب ... ووجود من يريدون ان يعيشوا هم و ابنائهم بسلام باي ثمن مثل حسن ليصدقوا تلك الاكاذيب ... و في النهاية فرض علي بالنسية - التي كانت تظن انها ستنجوا بنفسها فقط - ما فرض علي سائل الاقطار الاسلامية المهزومة , كما ان روبيرتو البطل هذا يمثل فئة قراصنة مسلمين ظلت بعد سقوط الاندلس فترة ليست بقليلة البحر المتوسط و كان معروف عنهم البأس و القوة

من بين الاشياء التي قرأتها ما بين السطور في تلك الرواية التي لا استبعد ان تكون احداث قريبة منها جدا حدثت في الحقيقة التالي :

المعاهدة سرية بين ابي عبد الله محمد الصغير و بين فرديناند و اييزابيللا لتسليم الحمراء و غرناطة , و هرب هذا الملك الخائن و ترك المدينة للقشتاليين
قول احدهم ان "الذي ضيعونا هم قاداتنا الغير مخلصون و غير محنكون "
عندما واجهت مريمة البلاء في سبيل الثورة قالت كلما كان المطلب غالي كلما كان الثمن فادحاً قصبرا ً
عندما نتأمل الجهود الفردية في الحفاظ علي الهوية المتمثلة في اللغة و الدين نجد انه كلما كانت سلطة الدولة قوية كلما ضعفت الهوية عبر الاجيال فالتنصير الذي كان صوريا في جيل مريم اصبح تدريجيا يتأصل في وجدان الابناء حتي كان علي هو الوحيد من بين اقرانه من يتحدث العربية و يستطيع قرائتها
تسائل علي المرير في نهاية القصة عندما تعلق بالقدس و ما حدث فيه من قدوان و غزو صليبي ثم تحريره و الهدية التي اخذها من عمر الشاطبي , تسائل ما الذي يتميز به القدس و ينقصهم ؟؟؟ هل لان القدس في قلب العالم الاسلامي و يجاورها مصر و الشام ؟؟؟ يتندر و يكره البحر الذي يفصلهم بقلب العالم الاسلامي ...
لم يستطع الافراد العزل ان يقفوا امام ما يحدث و خاصة ان الافراد بطبعهم لا يميلون الي الدفاع العسكري و الثورة , فهم يريدون الدعة و يميلون الي السكون و لا يريدون ان يدفعوا ما تقوله مريمة " كلما غلي المطلب غلي الثمن " و الدرس الذي تعلمته و ايقنته دوما ان الدفاع لا يغضب منك المحتل ابدا فهو يكرهك دائما , فقط يريد ان يوفر علي نفسه خسائر بشرية باقناعك بالعدول عن المقوامة و لكن هي الطريق الاشرف في رايي ضد اي عدوان ايا كانت قوته


بعض ما بقي من غرناطة



روابط لها علاقة للمزيد من الاطلاع علي الاندلس
اندلسيات

2 comments:

حسن مدني said...

سيدتي الفاضلة
هذا عرض جميل لقصة الروائية القديرة.
والحقيقة أنني حاولت قراءة مريمة والرحيل، وشغلني عنها شواغل. واستسلمت لهذه الشواغل لسببين، الأول أنني أعرف أنها جزء من قصة ليس عندي بقيتها، والثاني أنها تذكرني بما يؤلم من تاريخ سقوط الأندلس. والجزء الذي قرأته ينبض بالحياة، وهذا ما جعله أكثر إيلاماً.
وأنا من أنصار هذه القصص التي تجعل القارئ يعيش الأحداث، وينفعل بها. فهي أكبر أثراً من السرد التاريخي الذي يجعل القارئ يعرف الأحداث، ولكنها لا تمس وجدانه ولا ينفعل بها.
ومن أمثالها قصص نجيب الكيلاني ليالي تركستان وعذراء جاكرتا والظل الأسود وعمالقة الشمال وغيرها، وهناك قصة قرأتها باسم الجراد يحب البطيخ، هي أشبه بما تصفين ولكنها حول الانتفاضة الفلسطينية في القرن الماضي حوالي عام 1990 تقريبا.

حسن مدني said...

هذه العبارة ذهبية - تستحق أن توضع في صدر كل أدبيات المقاومة

"الدفاع لا يغضب منك المحتل ابدا فهو يكرهك دائما،فقط يريد ان يوفر علي نفسه خسائر بشرية باقناعك بالعدول عن المقاومة"

وأقول معك... مشاهدة المزيد
المقاومة ليست سبب العدوان، وإنما هي نتيجته

تحياتي