مقدمة
يعتبر هذا الكتاب من الكتب الهامة جدًا – إن لم يكن أكثر كتب الدكتور أهمية في رأيي المتواضع – لأنه في هذا الكتاب , يشرح الأرضية الأساسية الفلسفية التي يتناولها في معظم كتبه , فهو يتحدث و يشرح فكرة واحدة و هي فكرة " الفلسفة المادية " و ما يستتبعها من مصطلحات , و تلك الفكرة لها صفات محددة تظهر في اشكال متعددة و مختلفة في حياتنا ... تجليات الفلسفة المادية في حياتنا لا تخطر علي بال , و قد نتصور أن فعل معين يفعل فقط هكذا , و لكن بالتدقيق نجد أن فيه ظل من ظلال الفلسفة المادية .
و تأتي أهمية هذا الكتاب في شيئين أساسيين هما :
* أنه يصف بدقة الفارق بيننا و بين الآخر , فكثيرًا نقع في تقليد الآخر لاننا لا ندري اساسًا ما هم و ما نحن و كيف نتمايز عنهم , و ان لم نعرف أنفسنا ضعنا في فلسفات و تفكير الآخرين .
*يعطي لنا موازين فكرية حياتية يمكن لنا بها أن نزن أي أمر يمر علينا ( مقالة , قصة , فيلم , أو حتي سلوك بشر في مجتمعنا ) , نعرف هل هذا الشئ او الفعل او القول له خلفيات مادية دون أن ندري أم هو يرجع للفلسفة الإنسانية التي تنظر للإنسان بمنظور مادي و روحي في آن واحد ( منظور متعدد الأبعاد و مركب ) .
عن الكتاب
يتكون الكتاب من ثمانية فصول , يشرح الفصل الأول : الإنسان و المادة و الفصل الثاني : إشكالية الطبيعي و الإنساني الأرضية و الركيزة الأساسية التي يقوم عليها الكتاب , فهو يشرح أن الإنسان يتكون من جانب مادي ( مثله مثل الحيوان ) و جانب انساني , و هذا الجانب الإنساني الذي يتمايز به عن بقية المخلوقات الطبيعية /المادية يكون في 1- ان الإنسان لدية اخلاق و يعرف معني الجمال و الدين و الإجتماع ....و 2- أنه يطرح التساؤلات عن علل الخلق و الوجود الأولي ( لماذا خلقنا و وجدنا في تلك الحياة ) و بالتالي يبحث عن غرض وجده في الكون ... و3- هذا الإنسان قادر على التجاوز يعني أنه يتجاوز الأمر الواقع المفروض و يحلم بشئ مغاير له و يسعى لتحقيق هذا الحلم ( أعتقد ان أروع مثل موجود حاليًا يبين معني الحلم و تجتوز الواقع هي الثورة المصرية , فلم يكن احد يتوقع انها قد تتحقق , و لكن كل شخص شارك فيها كان لديه حلم و لو بسيط ... و قد تحقق و لو جزئيًا و أيضًا من أمثلة التجاوز في الأحلام هي الإنتفاضة الفلسطينية فصمود الفلسطينيين العزل أمام الكيان الصهيوني هو درب من الجنون من المنظور المادي ) كما ان الإنسان ه – صاحب ارادة حرية كما انه 6- لديه تاريخ يروى ( فالتاريخ هو فعل إنساني بإمتياز فهو تجسيد لحرية حركة الإنسان في الزمن و المكان كما انه 7- قادر علي تطوير منظومة أخلاقية غير نابعة من القانون المادي الذي يحكم جسده و إحتياجاته المادية و 8- كل فرد يتميز بالتفرد , صحيح ان هناك انسانية مشتركة ( فالجميع لديهم عينان و انف و اذنان ووجه ) و لكن ليس الجميع متشابه في القدرات العقلية ولا القدرات الإجتماعية و الحسية فقد يتربي طفلان توأم في نفس البيت و يكون لكل منهما سلوك مختلف تمامًا عن الآخر ... و هنا يظهر مصطلح الإنسانية المشتركة ( هو مصطلح انساني ينظر للانسان من جانبه المادي المشترك عند الجميع و يراعي ان هناك اختلافات و فروق فردية ) في مقابل مصطلح الإنسانية الواحدة ( و هو مصطلح مادي يري ان كل البشر وحدة واحدة يسري عليها نفس القانون في كل مكان و ان فشل هذا القانون في مكان ما فهو يرجع لخلل من طبقوه و ليس لان هناك عوامل آخري تتحكم في هذا الأمر )
و يستعرض الكتاب أيضًا سمات الطبيعة / المادة و يقول انها 1- بلا ثغرات ولا ثنائيات و ان كل شئ له تفسير داخل القانون المادي ولا نحتاج شئ من خارج القانون كي يشرح لما ما يحدث , كما ان تلك القوانين 2- لكل علة سبب , فهذا السبب يؤدي لنفس النتيجة في كل مكان ( الماء يغلي في كل الأماكن عند 100 درجة و التفاحة تسقط علي الأرض و لن ترتفع الي السماء في كل مكان ) و تلك القوانين 3- حتمية اي ستحدث أيا كان الأمر ( فالماء دائمًا يغلي و التفاحة دائمًا تسقط ) و يفترض ان 4- الطبيعة تتحرك بشكل تلقائي و ان تلك الحركة التلقائية 5- لا يوجد لها غاية او تجاوز من اي نوع .
ثم يتعرض الدكتور للمشاكل التي تواجه الفلسفة المادية , و ايضًا يشرح جاذبية الفلسفة المادية لتفسير الظواهر رغم المشاكل التي تواجه الفلسفة المادية
و في الفصل الثاني يقارن لنا بين الظاهرة الطبيعية و الظاهرة الإنسانية , و يقول أن الظاهرة المادية تهدف الي الوصول إلي تعميمات دون دراسة عميقة للظاهرة , كما يذهب البعض إلي ان هذا النموذج ( النموذج المادي ) هو النموذج الأمثل لدراسة العلوم الإنسانية مثل الأدب و الفلسفة و علم الإجتماع
ويرصد الدكتور حوالي 10 فوارق بين الظاهرة الانسانية و الظاهرة الطبيعية , ثم يتعرض لكلمتي الشرح , و التفسير و أن الأولي تنتمي للفلسفة المادية لانها تشرح ما تراه فقط امامها , اما الثانية فهي تنتمي للعالم الإنساني فهي تحاول البحث عن الاسباب و التعمق بها ولا تكتفي بالنظرة السطحية للأمر . ثم يتعرض الكاتب للماذا فشل النموذج المادي في تفسير الظاهرة الإنسانية , ثم يتناول موضوع هام جدًا أفرد له الفصل السابع كاملًا و هو المساواه و التسوية و كيف ان الأولي تنتمي لعصر الحداثة ( أي أن مرجعية تلك الكلمة هي الإنسان ) أما الثانية في هي تنتمي لعصر ما بعد الحداثة ( اي ان المرجعية للكلمة الثانية هي القانون الطبيعي و ليس الإنسان )
ننتهي في هذان الفصلان من الأرضية الأساسية التي ينبني عليها هذا الكتاب
ثم تظهر تجليات الفلسفة المادية في عدة موضوعات يتم تناولها , ففي الفصل الثالث العقل و المادة يتناول العقل من منظور الفلسفة المادية , و يري أن هناك نوعن من العقل ... العقل المادي ( الذاتي – الإجرائي – الغير متجاوز – الجزئي ) و العقل الأداتي ( الكلي – المتجاوز – النقدي – موضوعي ) و ينتقد د. المسيري العقل الأداتي بوضوح في عدة نقاط , فهو 1- محكوم بحيز التجربة المادية فقط ولا يمكنه تجاوزها , و هذا يؤدي بالعقل الي 2- ان يصبح جزء من الطبيعة المادية وليس الشيئ الذي يميز الإنسان عن الطبيعة و هذا العقل هو 3- عقل محايد يرصد الحقائق فقط و لكنه لا يمكنه صد الحقيقة او تكوين صورة كليه نقدية كما ان هذا العقل 4- عقل تكنوقراطي يقدس اللوائح و القوانين في حد ذاتها منفصلة عن القيمة و هذا العقل ايضا هو 5- عقل تافه لا يسأل الأسئلة الكلية و النهائية ... يهتم بالأمر الواقع فقط . كما انه 6- ينزع القداسة عن عن اي شئ و كل شئ بما في ذلك الإنسان . هذه بعض الانتقادات التي وجهها د.المسيري للعقل المادي .
في الفصل الرابع المادية في التاريخ , يستعرض د. المسيري الاساس للفلسفات المادية الموجودة في العالم الغربي اليوم , و هي الدارونية الإجتماعية , و هي تطبيق لنظرية عالم الحيوان الإنجليزي تشارليز دارون و تلك الفلسفة لها بعض السمات : القيمة الأساسية هي قيمة البقاء , و هو يكون من خلال الصراع ( الاقوي يفترس الأضعف و الأسمي يتطور مع الزمن و الأضعف ينقرض ) كما ان الضعيف يستحق ذلك لانه لم يثبت جدارة بالصراع فأستحق الفناء او ان يستخدم من قبل القوي , و ان كل من المنتصر و المنهزم يورث صفاته لأبناؤه و يصبح التفوق و الضعف وراثي و حتمي .
في الفصل الخامس : الترشيد و القفص الحديدي
و يقول ان هناك مصطلحان , الترشيد بالمعني التقليدي و هو هام جدًا فلا يجب ان يتعامل المرء مع الواقع بشكل ارتجالي لكن لابد ان يتعامل معه بشكل منظم منهجي وواضح الغاية و يتسم بمجموعة من المفاهيم و الأخلاق و ان الأعمال العظيمة لم تكن لتتم لولا هذا النوع من الترشيد
و لكن هناك ترشيد من نوع آخر ينتمي للمنطومة المابعد حداثية ( متحررة من اي قيمة ) و هذا النوع من الترشيد يوجه نحو اي هدف يحدده الإنسان , فيتم بالتدريج سحب الاشياء من عالم الانسان ووضعها في عالم الأشياء ( نزع القائية عن كل شئ ) ثم يتم سحب الإنسان نفسه من عالم الإنسان , و يستخدم الاعلام لاعادة تشكيل احلام الإنسان ليتبناها طواعية و يتخيل انه اختيار ذاتى حر , من نماذج ترشيد الانسان هي افران الغاز النازية ( فهي كانت تتصور ان اجناس معينة لا اهمية لها و بالتالي التخلص منها افضل شئ يمكن ان نفعله معها )
الفصل السادس يتناول اشكالية : نهاية التاريخ من منظور فرانسيس فوكوياما و من منظور صموئيل هنتنجتون . فالأول صاحب كتاب : نهاية التاريخ و هو يقول ان العالم بأسره قد وصل الي ما يشبه ان الإجماع الديمقراطي الليبرالي كنظام صالح للحكم بعد هزيمة الايديولوجيات المنافسة فلابد للناس جميعًا ان يصلوا الي تلك الصورة المثلي و بذلك لن يكون هناك تاريخ ( لا يوجد صراع لاننا وصلنا الي افضل صورة ) .
اما الثاني ( صموئيل هنتنجتون ) صاحب نظرية صدام الحضارات , فهو يقول ان الدولة القومية بشكلها الحالي قدر تراجع دورها و بدأ يظهر ما يسمة بالحضارات , فهو يقول ان الغرب لم يعد اللاعب الوحيد في الحلبة و لكن ظهرت حضارات آخري , و يقول ان الحضارات مختلفة من مكان لآخر بسبب التاريخ و اللغة و اهم شئ هو الدين , و هو يقسمم العالم للغرب و الآخر the west and the rest
و هنتنجتون يمجد من يتجه نحو الغرب مثل الكاتب الجامايكي الحاصل علي جائزة نوبل 2001 نايبول . و اوزال رئيس تركيا , و بطله الاكبر هو اتاتورك الذي محي تاريخ تركيا الإسلامية عاصمة الخلافة و أسس لتركيا العلمانية و كانت رمزية الغاء الحروف العربية و استخدام الحروف اللاتينية .
يؤمن هنتنجتون ان هذذا الصراع هو صراع مؤقت بين المنظومات العلمانية و المنظومات الأخرى و سيتم حسم الصراع في النهاية لصالح النموذج المادي
في الفصل السابع : عنصرية التفاوت و عنصرية التسوية
عنصرية التفاوت هي عنصرية تنتمي لعصر الحداثة فهي تؤمن بتفاوت الأجناس البشرية , فهناك اجناس ارقي و متفاوته عن اجناس ادني اخري , و هذه الأجناس من حقها ان تفعل ما تشاء بالاجناس الأدنى ( الانسان الاوروبي الابيض فعل ما في مسلمي الاندلس ثم استدار ليتوغل في العالم الجديد و اباد ملايين من سكان الامريكتان و استراليا ) و هذا ايضًا يظهر جليا في النموذج النازي و ما فعله بالأجناس التي تخيل انها ادنى منه .
اما عنصرية التسوية فهي عنصرية تنتمي لعصر ما بعد الحداثة , حيث لا مرجعية من الاساس , هذة العنصرية موجهه ضد الانسان بالأساس , فهى تنادي تلك العنصرية بأن تسوي بين البشر و بين كل الأشياء الأخري جمادات او حيوانات , فهي عنصرية تهدف الي الغاء المعيارية البشرية , و يصرون في تلك العنصرية علي الاستخدام الغير طبيعي لكلمة اقلية , فالمرأة اقلية و الاطفال اقلية و المسنون اقلية و المعاقين اقلية و الشواذ اقلية و البدينون اقلية , فلا توجد اغلبية ( صورة كليه ) من اي نوع بل جزئيات صغيرة متشظية في حالة صراع دائم مع بعضها البعض .
في الفصل الثامن و الأخير المادية و الإبادة , يتناول د. المسيري الإبادة كنموذج كامن في الحضارة الغربية , فهي ليست دخيلة عليه و لكنها متجذرة فيها , فبدء من افلاطون و كتابة الجمهورية الحقوق كانت للسادة فقط اما العبيد و المرأة فلا حقوق من اي نوع لهم , فكما أصلت الدارونية الإجتماعية لمبدأ ان الصراع هو لغة البقاء , فمن حق الاقوى ان يبيد الضعيف متي قرر ذلك , و يظهر ذلك جليا في الإبادات التي شهدها العالم من الغرب تجاه الآخرين ( الاسبان ضد المورسكيين في الاندلس , الاسبان ضد الهنود الحمر , الاوروبيين ضد الهنود الحمر , ابادة سكان استراليا الاصليين , المذابح التي اقامها قياصرة روسيا ضد الاتراك المغول المسلمين ( كان عددهم يقدر بنفس عدد سكان روسيا و لكنهم اليوم لا يتجاوزون نسبة ضئيلة ) و يظهر ايضا في اللحظة النازية النماذجية , و يتجلى اخيرًا في المذابح التي يقيمها الصهاينة لسكان فلسطين ( من تهجير و ابادة مباشرة و ما شابه ) .
*ربما اكون قد القيت الضوء علي العنواين التي احتواها الكتاب , و بالطبع اضطررت آسفة الي إغفال العديد من العناوين الهامة و الحيوية و التي تعطي للكتاب بعده و تشرح اكثر تلك الافكار بالأمثلة و التمعن اكثر في دراسة الظاهرة , و اتمني ان يدفعكم هذا الإستعراض السريع لإقتناء الكتاب و قراءته J